الثلاثاء، ديسمبر 20، 2011

قالوا عن رامبو



رامبو: الشعر والجنون


"لمأعد شاعراً لأني لم أعد مجنوناً"
يمكن لهذه العبارة ان تلخصتجربة رامبو في الشعر والحياة على السواء. من هنا السحر او الجاذبية التي تمارسهاتجربته على الاجيال المتلاحقة من الادباء حتى الآن. فاسطورة رامبو لم تنطفىء علىالرغم من سيل الكتب والمقالات التي أُلِّفت عنها. لقد ظل فيها شيء ما يستعصي علىالتفسير. ولعل البراءة الأصلية، او البراءة المطلقة التي يتحلى بها شعره هي السببفي ذلك. لكن ليت رامبو ظل مجنونا لعدة سنوات اضافية فقط. فعمره الشعري لا يتجاوزالاربع او الخمس سنوات. من يصدق ذلك؟ ومع ذلك فقد ملأ الدنيا وشغل الناس منذ أواخرالقرن التاسع عشر وحتى اليوم. ما الذي كان سيحصل لو انه ظل مجنونا لمدة اربع او خمسسنوات اخرى؟ اما كان سيضيف الى الشعر قصائد جديدة قلّ ان يجود بها الزمان؟ ليته لميعقل، رامبو. او ليته لم يعقل بمثل هذه السرعة...
فهو بمجرد ان استيقظ علىنفسه ورأى حجم المغامرة الجنونية التي انخرط فيها مع فيرلي والانعكاسات المدمرةلهذه المغامرة على حياته الشخصية راح يستيقظ ويستشعر الوضع. راح يشعر بالمسؤوليةويصبح ناضجا. وبدءا من تلك اللحظة انتهت البراءات الاصلية، وانتهى الشعر. ثم ابتدأتحياة جديدة قائمة على الحسابات المادية والتفكير بالمستقبل الشخصي وتأمين العيش، بلوتكديس المال والذهب اذا امكن. وهكذا انتهى الشعر لكي تبتدىء الحياة، او انتهىالجنون لكي تبتدىء الحسابات العقلانية.. ولكن أليست حياته الثانية التي سكت فيهاصوت الشعر هي مغامرة جنونية ايضا؟ أليست بحثا عن الذات والمجهول من خلال المغامرةفي اصقاع الارض المختلفة، من اندونيسيا الى عدن وبلاد العرب؟ بمعنى آخر: ألم يعشرامبو حياته شعريا حتى بعد ان تخلى عن كتابة الشعر؟. وفي كل مرة كان يكتشف منطقةجغرافية معينة ألم يكن يحلم فورا في اكتشاف ما وراءها؟...
وهكذا ظل رامبو يركض وراءالمجهول، وراء الافق الذي لا ينجلي الا عن أفق، حتى سقط صريعا وخانته قدماه. كانرامبو يبحث عن الدهشة، عن المفاجأة، عن البراءة في هذا العالم. ولم يكن يشبع فيالبحث. كان مهووسا بالمطلق: مطلق الحياة والوجود. والهوس بالمطلق له نتيجة محتومةفي نهاية المطاف: معانقة الموت. فالموت هو المطلق الذي لا مطلق بعده، وهو نهايةالمشوار والطريق. الموت هو المجهول الوحيد والاكبر الذي ينتظر كل انسان. والشعربمعنى ما هو ايقاف، او تأخير للحظة الموت. الفن ـ او الابداع بشكل عام ـ هو وحدهالقادر على مصارعة فناء الموت، على تحديد، على منازلته وجهاً لوجه. ذلك ان الشعريبقى بعد الموت، وبخاصة اذا كان في حجم شعر رامبو او بودلير، وهولدرلين، الخ... فيكتابه الجميل والرائع عنه يقول "إيف بونفوا" بما معناه: لم يقبل أبداً بان يبيعروحه، رامبو. وعلى الرغم من الظروف الصعبة وضيق العيش والفقر فانه ظل مصرا علىالحرية الحرة. ظل مهووسا بالحرية كمطلق او كأفق للوجود: افق تبدو الحياة بدونه لامعنى.
ومصطلح "الحرية الحرة" هومن اختراع رامبو، ينبغي الا ننسى ذلك. فهو يقول في احدى رسائله الى استاذهايزامبار: لا ازال مصرا على اختيار الحرية الحرة، على التعلق بها، على معانقتها. ثميضيف ايف بونفوا قائلا: "ان عظمة رامبو تكمن في انه رفض ذلك القليل من الحرية الذيكان متوافرا في عصره وبيئته، وذلك لكي يشهد على استلاب الانسان في الوجود، ولكييدعوه الى الانتقال من بؤسه المعنوي، الى المجابهة التراجيدية للمطلق. وهذا القرارالذي اتخذه بالاضافة الى صلابته واصراره عليه هما اللذان يجعلان من شعره الشعرالاكثر تحريرا في كل تاريخ اللغة الفرنسية، وبالتالي واحدا من اجمل ما شهدته هذهاللغة.". لقد رفض رامبو ان يكتفي بالحرية المحدودة او الضيقة التي كانت ممكنة فيمدينة "شارفيل" حيث ولد. رفض ان يعيش كما عاش ابناء قريته او مدينته. وراح يغامر فيمساحات العالم الشاسع بحثا عن الحرية الحرة: اي عن الحرية المطلقة في الواقع. ولكننا نعلم ان الحرية المطلقة شيء خطر، ونهايتها الموت. لقد كان رامبو يبحث عنحتفه دون ان يشعره كان مستعدا لان يغامر بالحياة كلها من اجل لحظة انعتاق، او لحظةحرية، او لحظة ابداع شعري. كان يريد ان يرى ما لا يُرى. وكان مستعدا لان يدفعالثمن. وقد دفعه باهظا. ولكن النتيجة كانت هذه القصائد الخالدة التي تبقى علىالدهر.
لقد خسر رامبو الحياة،ولكنه ربح الشعر. وفي اثناء ذلك رأى ما لا يُرى، سرق النار، واحترق كما تحترقالفراشات الجميلة في فصل الربيع. ما معنى الشعر بدون براءة مطلقة، بدون صدق مطلق؟ولماذا يستمر بعضهم في كتابة الشعر حتى بعد ان فقدوا الحد الادنى من البراءة ان لمنقل اكثر من ذلك؟ شكرا لك، آرثر رامبو. فقد اعطيتنا درسا بليغا في الامساك عنالشعر: اي في احترام الشعر. وصمتك كان ابلغ من كل شعر..
فيما يخص نظرية "الرائي" الشهيرة يقول ايف بونفوا: ما الذي يقصده رامبو بذلك المجهول الذي يريد ان يكتشفه،ان يراه؟ وهو مجهول يبني عليه كل نظريته الشعرية. فهو يقول حرفيا "بان على الشاعر،ان يكون رائيا، ان يجعل من نفسه رائيا. والشاعر لا يتوصل الى الرؤيا الا بعد انيمارس خلخلة لكل حواسه: خلخلة طويلة، هائلة، ومتعقلة في آن معا. وينبغي على الشاعران يجرب كل انواع الحب والعذاب والجنون..." ولهذا السبب انخرط رامبو بمجرد وصولهالى باريس في انواع شتى من التجارب الحسية والجسدية: كالشراب، والجنس، والكحول،وحتى المخدرات. وعاش بالتالي تجارب حدّية، او تجارب قصوى متطرفة لكي يعرف الى ايمدى يمكنه ان يذهب مع نفسه، ولكي يرى اشياء جديدة من خلال هذه الخلخلة الشمولية. ولكنه دفع ثمن هذه الحياة الصاخبة (التي اتنهت باطلاق النار عليه من قبل فيرلين) غاليا كما نعلم. وسجل ذلك في ديوانه الشهير: فصل في الجحيم. وبعدئذ تاب عن الحياةالمخلخلة والشعر، بل وتنكر للمرحلة نهائىا وراح يحتقر حتى شعره ويعتبره سخافاتصبيانية لا تستحق الذكر.. كان ذلك فيما بعد عندما "عقل" واصبح تاجرا في عدن لا همله الا جمع المال والذهب وارضاء امه وعائلته او اقناعها على الاقل بانه قادر علىالنجاح في الحياة وتأمين المستقبل. ولكن ما هو هذا المجهول الذي كان يريد ان يراه؟هل يعني به استكشاف اجزاء جديدة في العالم لم يكتشفها بعد؟ هل كان يؤمن بوجود عالمآخر غير العالم الطبيعي الذي نراه ويريد ان يتوصل اليه عن طريق اللغة الشعريةالجديدة، او عن طريق الخلخلة الجنونية للحواس؟ لا ريب في انه ككل المبدعين الكباركان عرضة للهلوسات واحلام اليقظة والاشياء الخارقة للعادة. ولولا ذلك لما استطاع انيتوصل الى هذه الابيات الشعرية التي تمارس تأثيرها المغناطيسي او السحري على جميعالقراء. ولكنه كان دهريا اكثر مما نظن، ولم يكن يؤمن بوجود كائنات اخرى او عالم آخرغير عالمنا هذا. كان فقط يكتشف علاقات جديدة لا تستطيع العين المجردة ان تكتشفها اوان تراها. وكان يتوصل اليها عن طريق الخلخلة الجنونية، او اللغة الشعرية الجديدةالتي تفكك العلاقات المنطقية بين الاشياء. يقول مثلا: "لقد عوَّدت نفسي علىالهلوسات البسيطة: كنت ارى بكل بساطة مسجدا محل مصنع، مدرسة طبول مصنوعة من قبل،عربات خيول تجري على دروب السماء، صالوناً في نهاية بحيرة..."
هنا تكمن الحداثة الشعريةالتي دشنها رامبو واخذها عنه جميع الشعراء فيما بعد (بمن فيهم الشعراء العرببالطبع). فهو لم يخلخل حواسه، ولم يغامر بتركيبته النفسية، او حتى بصحته العقلية،إلا لكي يكتشف أشياء جديدة، لكي يرى ما لا يرى في الحالات الطبيعية للذهن. لكي يعيدتركيب الامور بطريقة اخرى. ولكن العملية خطرة: فقد تؤدي الى الجنون الكامل في بعضالاحيان. وعندما غامر رامبو الى اقصى حد ممكن وشعر بالخطر تراجع وسكت. ولكنه فياثناء ذلك كان قد كتب بعضا من اجمل قصائد الشعر الفرنسي، بل والعالمي. هكذا نجد انعملية الخلخلة ليست مجانية، او ليست مقصودة لذاتها، وانما تهدف الى شيء آخريتجاوزها. وقد جربها قبله بودلير وعرف الى اي مدى يمكنه ان يذهب، وكيف ينبغي انيتوقف عند حد معين والا صعقته الرؤيا فاحترق او اختل نهائىا.. لنستمع الى هذهالابيات الاخيرة من "فصل في الجحيم":
وداعـاً
ها هو الخريف يخيم! ما اسرعما ينقضي الوقت! ـ ولكن لماذا نتحسّر على الشمس الأبدية، اذا كنا منخرطين من اجلاكتشاف الوضوح ـ بعيدا عن الناس الذين يموتون على الفصول.
الخريف. قاربنا المرتفع فيالضبابات الجامدة ينحرف باتجاه ميناء الفقر المدقع، والشمس الهائلة في السماء مبقعةبالنار والوحل. آه! يا للاثواب الرثة الفاسدة، والخبز المبلل بالمطر....! واذن فلنتنتهي هذه الغولة الملكة على ملايين النفوس والاجساد الميتة التي ستحاكم! لا ازالاتذكر عندما كان جلدي منهوشا بالوحل والطاعون، والدود يملأ شعري وتحت الإبط واكثرمن ذلك دودة كبيرة في القلب، مستلقية وسط مجهولين بلا عمر، بلا عاطفة... كدت اموتبذلك... يا لها من ذكرى شنيعة! اني امقت الفقر المدقع.
واخشى الشتاء لانه فصلالراحة!
ـ احيانا ارى في السماءشواطىء لا نهاية لها، مغطاة بأمم بيضاء في حالة فرح. قارب ذهب كبير يقف فوقي، يلوّحبراياته المتعددة الالوان تحت نسمات الصباح. خلقت كل الاعياد، كل الانتصارات، كلالفواجع. حاولت اختراع ازهار جديدة، كواكب جديدة، غرائز جديدة، لغات جديدة. وتوهمتامتلاك قدرات خارقة للطبيعة. ولكن! ينبغي علي الآن ان ادفن خيالي وذكرياتي! وهكذاتبخًّر مجدٌ جميل لفنان وحكواتي!
انا، انا الذي اعتقدت بانيساحر او ملاك، معفّي من كل التزام اخلاقي، عدت الآن الى الارض الصلبة، مع واجبينبغي ان ابحث عنه، وواقع مر ينبغي ان اعانقه! يا لي من فلاح! آه من سذاجتي!.. هلخدعت؟ وهل الرحمة اخت الموت بالنسبة لي؟
اخيرا فاني اطلب المغفرةلاني تغذيت من الكذب. ولننس كل شيء. ولكن لايد صديقة تمتد نحوي...



ميلاد الذئب الوحيد

ليس هناك قصة حياة اقرب الىالأسطورة من قصة حياة الشاعر آرتور رامبو (1854-1891)‚ عندما كان في السادسة عشرةمن العمر كتب واحدة من اشهر قصائد الشعر الفرنسي ثم سرعان ما صدم باريس البوهيميةبتعاطيه للمخدرات واقامة علاقة شاذة مع الشاعر يول فيرلين (1844-1896)‚ كتب رائعته «فصل في الجحيم» في أشهر قليلة (وهي المجموعة الشعرية الوحيدة التي نشرها وهو علىقيد الحياة) ويقال انه احرق النسخ المطبوعة منها (وعندما اكتشفت بعض النسخ بعدوفاته في أرشيفه الخاص طلب الوصي على تركته الأدبية اعدامها لكي تأخذ الأسطورةمظهرا حقيقيا)‚ بعد ذلك راح يجوب المعمورة ويمارس اعمالا غريبة‚‚ اغرب ما تكون عنالشعر‚ ولم يكتب كلمة اخرى‚
في العادة يعتبر ابداعالشاعر وما يقدمه من اعمال بمثابة ترياق مفيد للميل نحو الأسطرة ولكن الاعمال التيتركها رامبو محدودة وملتبسة‚ شعره كله أقل من مائة قصيدة قصيرة‚ والنص النثري (فصلفي الجحيم) لا يزيد على سبعة آلاف كلمة وقصائده النثرية المعروفة بـ «اشراقات» (آخرما كتب من شعر) الى جانب 250 رسالة وبضعة نصوص اخرى‚‚ كل ذلك يكون مجلدين بالكاد‚ شعره يتراوح بين قصائد ملهمة وخربشات صبيانية معظم رسائله أكاذيب واضحة وبعضكتاباته الاخرى مشكوك في صحتها‚ هذا بالنسبة للأعمال التي تركها‚ اما المصادرالاخرى فحافلة بمشكلات والتباسات اضافية‚ مذكرات اقاربه واصدقائه السابقين عبارة عنمنازعات متضاربة ومشكوك في صحتها كذلك وبالرغم من ذلك كله حاول كثير من النقاد «استخدام» رامبو وأعماله كمرآة تعكس اهتماماتهم الخاصة‚ وبكلمات الناقد «غراهامروب» ‚‚ تم احياء رامبو باعتباره شاعرا رمزيا وسيرياليا وشاعرا حديثا ومتمرداطلابيا وشاعرا غنائيا ورائد شذوذ ومدمنا للمخدرات كما كان يستشهد به ويتوسله فنانونكبار مثل بيكاسو وجيم موريسون وعلى الرغم من ذلك كله تظل الاسئلة الاساسية عن حياتهدون اجابة شافية كيف استطاع ان يكتب شعرا كهذا في مثل تلك السن الباكرة؟ ولماذاهجره؟ وهل هجره أم أن ما كان يريده لم يأته؟ وهل كان يريدهحقا؟
السنوات الأخيرة شهدتاصدارات كثيرة حاولت كلها ان تتناول هذا الشاعر تناولا شاملا فالى جانب سيرة الحياةالتي كتبها روب ــ وهي اكثر الاعمال المكتوبة بالانجليزية شمولا على مدى نصف القرنــ هناك الآن «رامبو‚‚ كاملا» الصادر عن مودرن ليبراري بترجمة وتحرير «يات ماسون»‚ كان المجلد الاول الصادر بالانجليزية عام 2002 يضم كل اشعار رامبو بالاضافة الىكتابات لم يسبق نشرها تتنوع بين موضوعات التعبير في المدرسة ونثار قصائد تم تجميعهاعن طريق المعارف والاصدقاء وقبل اشهر صدر المجلد الثاني‚
يقول ماسون ان الرسائلتحاول ان تصحح الصورة وتوضح الجانب الرصين منها ــ الا انها ــ ولا نعرف ان كان ذلكقد تم بقصد أو دون قصد من المحرر ــ قد اوضحت كل شيء فلم تكشف عن ان الشاعر كانذميما وبغيضا ولحوحا وكثير المطالب فحسب بل لعلها فعلت ما هو اكثر من ذلك كشفتالرسائل انه بعد ان ترك الشعر لم يفكر فيه على الاطلاق وهنا يقفز الى الذاكرة قول «كامو» «للابقاء على الاسطورية لا بد من تجاهل هذه الرسائل» كان «كامو» يرى انهايمكن ان تكون «مدنسة» شأن الحقيقة احيانا‚
بدأت اسطورة رامبو منذ لحظةمولده في العشرين من اكتوبر عام 1854 في مدينة شارلفيل الصغيرة (في مقاطعة الاردينشمال شرقي فرنسا) البعض يقول انه ولد وعيناه مفتوحتان دلالة على «الرائي» الذيسيكونه في قادم السنوات ويقول آخرون ان المولود فاجأ القابلة عندما وقفت مدهوشةمشدوهة وهي تراه يحبو في اتجاه الباب وهكذا ــ في نظرهم ــ يكون رامبو «مشاء» المستقبل او «العابر بنعال من ريح»‚ في طفولته كان رامبو قليل الاهتمام باللعب مثلسائر الاطفال ولكن موضوعات التعبير التي كان يكتبها في المدرسة اكسبته شهرةالعبقرية‚ شارك في مسابقة لكتابة الشعر وهو في الخامسة عشرة‚ نام الساعات الثلاثالاولى من زمن المسابقة ثم تناول افطاره وقبل انتهاء الوقت المحدد سلم قصيدته وفازبالمسابقة‚
رسائل رامبو التي بقيت تبدأتقريبا من تلك المرحلة في حياته وللوهلة الاولى يتضح فيها ذلك المزيج الغريب منالمداهنة والعناد والاصرار على تلبية مطالبه وهي صفات سوف تظل ملازمة له طوالحياته‚ في رسالة عجلى لاستاذه جورج ايزمبار يتبدى ميله للاثارة وعندما كتب للشاعر «تيودور بانفيل» محرر انطولوجيا «البرناسي المعاصر» نجده يقلل من شأن نفسه رغمفتنته بوعده الخاص: استاذي العزيز حاول ان تحتفظ بهدوئك وانت تقرأ قصائدي لا تضحك‚ لا تبتسم‚ بوسعك ان تدخل السعادة على قلبي وأن تزرع الأمل في نفسي لو انك وجدت لهامكانا ولو صغيرا بين البرناسيين‚‚ طموح؟ جنون؟! كان آنذاك في الخامسة عشرة وأرفقبرسالته ثلاثة نماذج من اشعاره كان من بينها قصيدته «احساس»: في اماسي الصيف الزرق‚ سأمضي عبر الدروب‚ ينقر القمح أقدامي‚ ادوس العشب النابت حالما‚ سأحس بندواته‚ وأدعالريح تضمد رأسي الحاسر‚ لن اتكلم لن افكر في شيء‚ لكن الحب اللامتناهي سيتصاعد فينفسي وسأمضي بعيدا‚ بعيدا جدا مثل بوهيمي عبر الطبيعة سعيدا كما لو معامرأة‚
وهي غنائية تقوم بعمليةتقطير لأعمال الأسلاف على نحو اصيل كما حدث بالنسبة للوحة «مونيه» الانطباعيةالشهيرة «شروق الشمس» تلك اللوحة التي ستبدأ الحركة الانطباعية في التصوير بعد ذلك‚ باستخدام رامبو للزرقة لوصف ليالي الصيف لعله كان يتطلع الى «السيريالي» الذيسيكونه ايضا بعد سنوات قليلة من ذلك اما تركيزه على ما يشعر به اكثر منه على ما يرىفهي عملية مزج بين افكار شعر الطبيعة عند البرناسيين والانجذاب الشديد نحوالحسية‚
وفي مايو 1871 كتب رامبوالرسالتين اللتين ستعرفان بـ «خطابات الرائي» وفيهما نجد تعبيرا واضحا عن عقيدته اوبيانه الشعري‚ الاولى موجهة الى «ايزمبار» وتبدأ باهانة الشعر الذاتي الجاف وتتضمناغنية قصيرة رتيبة: «اهبط الآن الى اسفل الدرجات‚ لماذا؟ اريد ان اكون شاعرا وأحاولان اصبح رائيا‚
لن تفهم كل شيء وربما لااستطيع ان اشرح لك يجب ان تصل الى المجهول باجراء خلل لكل المعاني‚ العذاب كبير‚ ولكن ينبغي ان تكون قويا وأن تكون قد ولدت شاعرا‚ ولقد اكتشفت انني شاعر وهذا ليسذنبي‚ من الخطأ ان تقول انني افكر يجب ان تقول انهم «يتفكرونني»‚ انا آخر ! معذرةلهذا اللغو واللعب بالكلمات»‚ الرسالة الثانية الى صديق ايزمبار‚ بول ديميني (وهوشاعر شاب كان قد تعرف عليه قبل عام في دوية) وفيها تكرار وتفصيل لقراراته التيستجيء سريعا: «اول مهمة لمن يريد ان يصبح شاعرا هي ان يعرف نفسه تماما‚ ان يبحث عنروحه يفتش فيها‚ يختبرها‚ يفهمها‚ الشاعر يجعل نفسه رائيا عن طريق تعطيل وتلويث كلالحواس يمارس كل أنواع الحب والمعاناة والجنون‚ يبحث عن ذاته‚ ينهك كل ما يمكن بحيثلا يبقى سوى الجوهر ولكن رامبو لم يستطع ان يحقق ذلك بمفرده‚
ولكن حياته في افريقيا لمتكن غامضة كما يوحي اسلوبه في استدراء العطف‚ ما كتبه تشارل نيكولز عن تلك السنواتبعنوان: شخص آخر‚‚ آرتور رامبو في افريقيا يكشف ان اصدقاءه كانوا يتذكرونه باستمرارباعتباره محدثا جميلا ورجل اعمال بارعا استطاع ان يغوص في ثقافة المنطقة‚ اثناءوجوده في هرر‚ عاش مع امرأة محلية عاما ونصف العام وكان لديه خادم يحبه لدرجة انهجعله المستفيد الوحيد من وصيته وهناك شهادات كثيرة وأدلة على اهتمامه بالثقافةالعربية وبالاسلام وأنه كان يحتفظ بخاتم محفور عليه الاسم الذي اختاره لنفسه وهوعبده رامبو وليس صحيحا انه لم يكن هناك من يكاتبه فقد اختار ماسون ان يستبعد من هذهالطبعة من الكتاب اكثر من ثلاثين رسالة منه الى «ألفرد الج» ــ تاجر سويسري ــ بزعمانها لا تتضمن سوى معلومات عن اعمال تجارية بيد ان الاقتباسات التي نشرها آخرون منهذه الرسائل توحي بأن الاتـــصالات التي جرت بين الرجلين (33 رسالة) خلقت بينهماعلاقة حميمة وأن الرسائل وان كانت مراسلات عمل الا انها تكشف عن شخصية رامبو المرحةوقدرته الفذة على الوصف‚
الحدث الأهم في مرحلة عملرامبو في افريقيا هي تجارة السلاح التي مارسها لحساب «منليك» ملك «شوا» في قلباثيوبيا ويقال انه تاجر بالعبيد وان كان ذلك ليس مؤكدا‚
في 1888 كتب الى امهوشقيقته «‚‚‚ ضجر طوال الوقت‚ لا أجد شيئا مهما للقول‚ صحارى يسكنها زنوج اغبياء‚ لا طرقات‚ لا بريد‚ لا مسافرين‚ عم تريدوننا ان نكتب من هنا؟ عن اننا نضجر ونملونصبح اغبياء؟ وكما ان الامر لا يسلي احدا فالسكوت افضل!»‚ كانت امه تحاول ان تقنعهبالزواج وكان يرد عليها بأنه ليس لديه الوقت للبحث عن زوجة ولكن رأيه تغير في أغسطس 1890 عندما سأل امه في احدى رسائله: «هل يمكن ان اجيء للزواج عندكم في الربيعالمقبل؟ الا انني لا يمكنني ان اقبل بالاقامة بينكم ولا بالتخلي عن اعمالي التجاريةهنا‚ هل تظنين انني يمكن ان أجد من تقبل ان ترافقني فياسفاري؟»‚
يبدو ان رامبو كان يستشعراقتراب نهاية الرحلة اذ عندما عاد الى «هرر» في فبراير 1891 زادت آلام ركبته اليمنىحيث نقرأ في رسالة الى امه: «حالتي تسوء في الوقت الحاضر‚ تؤلمني وتوجعني على الاقلالدوالي في ساقي اليمنى‚ هذا ما نفوز به من عملنا في هذه البلاد التعيسة (‚‚‚‚‚) اشترى لي الجوارب المخصصة لمرض الدوالي‚‚ لساق طويلة ومتيبسة بانتظار ذلك احتفظيبقدمي مربوطة»‚ ولكن عندما وصلت الجوارب كانت ساقه قد تورمت وكان لا بد من العودةالى عدن للعلاج لكنه لا يستطيع السير أو ركوب دابة كتب في 30 أبريل 1891:
تلقيت رسالتك والجوارب فيظروف بائسة بعد انتفاخ ساقي وتورم ركبتي وتفاقم آلام المفاصل‚ قررت العودة الى عدن‚ اعيش وحدي في «هرر» بين الزنوج‚‚ لا دواء ولا نصيحة‚‚ اقتضى ذلك مني ان اتخلى عناعمالي التجارية ولم يكن الامر سهلا‚ توصلت الى تصفية كل شيء تقريبا‚ الألم شديدوالنوم لا يعرف طريقه الي عيني‚ استأجرت 16 حمالا زنجيا وطلبت صنع نقالة ليحملونيعليها‚ توصلت الى اجتياز ثلاثمائة كيلومتر في الصحراء بين جبال «هرر» وميناء «زيلع» في 12 يوما‚ بعد وصوله ادخل المستشفى الاوروبي ثم سافر الى مرسيليا بالبحر وفيالثاني والعشرين من مايو ابرق الى امه «تعالي انت أو ايزابيل الى مرسيليا اليومبالقطار السريع‚ سيتم بتر ساقي صباح الاثنين‚‚ خطر الموت !»‚ ومات بالفعل فيمرسيليا في العاشر من نوفمبر 1891 ودفن في مدافن العائلة في مسقط رأسه شارلفيل‚ لميمش احد وراءه الى القبر سوى امه وشقيقته‚ ووضعت شاهدة تشير الى قبر التاجر جانآرتور رامبو اما شاهدة قبر الشاعر فلم تظهر الا في عام 1946 أي بعد سبع وخمسين سنةمن موته عن طريق جماعة مرسيليا الأدبية .




==================





آرثر رامبو( جان نيكولا آرثر رامبو: 1854 ـــ 1891)

بوهيميتي
أمضي، القبضتان في جيبي المثقوبين ،
معطفي أيضا يغدو معانقاللكمال،
أسير تحت السماء... ربة القصيد، ملهمتي ! لقد كنت المخلص لك.
أوه ! يا للمحبات المشرقة البهية التي كنت أحلم بها !
سروالي الوحيد كان به ثقب شاسع.
ــــ عقلة إصبع ! متضلعا في الحلم،تماما كما الحب، أدرس آناء عدوي القوافي .
فندقي كان هناك في الدب الأكبر .
ــــ ونجومي في السماء كان لها خفخفة الحرير الناعمة.
جالسا على حافة الطرقات، كنت أسمعها،
في هذه الليالي الفاتنة من أيلول
حيث كنت أحس قطرات الندى على جبهتي،
مثل خمرة من عافية وقوة
هناك، حيث كنت وسط الظلال الغريبة أنظم شعري
كأنها القيثارة، أجذبأوتارا مطاطية
لحذائي المجروح، رجل بالقرب من قلبي ! 
نائم الوادي
هذه حفرة للخضرة يشدو فيها نهر
بهوس يعلق للأعشاب أسمالا فضية
حيثتسطع شمس الجبل الأبي
إنه واد صغير يرغي ويزبد بالأشعة الدافقة
جندي شاب، فم مفتوح، رأس عار
و القذال المستحم في رطوبة الحرف* الأزرق ينام
ممددا وسط العشب، تحت غمامة
شاحبا في فراشه الأخضر حيث ينهمر (يمطر) الضوء
ينام و القدمان في زهر الدلبوث المخملي.
باسما مثل طفل سقيم يقضي القيلولة:
أيتها الطبيعة الرؤوم، هدهديه وامنحيه الدفء، إن الصقيع يغمره.
الشذا لا يرتعش له أنفه
هادئا، هو ينام في الشمس الشاسعة، اليد علىالصدر،
و على جنبه الأيمن ثمة ثقبان أحمران.

الأبدية (1)
(هذه النسخة من نص " الأبدية " توقيع رامبو للشاعر جان ريشبان سنة 1872وهي التي يعتمدها الناشرون)
لقد تم العثور عليها !
ماذا ؟ الأبدية !
إنها البحر الذاهب مع الشمس .
أيتها الروح المترصدة 
لنهمس بالاعتراف
رغما عن الليل الرديء 
والنهار الموغل في النار
بشر للتأييد ،
حماسات مشتركة واندفاعات
هنا أنت تنفلتين وتحلقين وفقا لـ ....
بما أنه منك فقط ،
أنت ، جمرات الساتان 
يضوع الواجب
دون أن نقول : أخيرا.
هنا ما ثمة أمل ،
ولا أي فجر جديد
معرفة مع صبر
و النكال أكيد
قد تم العثور عليها !
ماذا؟ ــــ الأبدية.
إنها البحرالمرتحل مع الشمس
الأبدية ( 2 )
) لقصيد رامبو "الأبدية" نسخة ثانية نشرت في "كيمياء الفعل" أحد فروعديوانه " فصل في الجحيم" - 1873 - (
لقد تم العثور عليها !
ماذا؟ الأبدية.
إنها البحرالممتزج بالشمس.
يا روحي الأزلية ، 
عايني أمنيتك
رغما عن الليل الوحيد
و النهارالموغل في النار.
إذن أنت تتحررين
من الناس المؤيدين،
من الحماسات المشتركة ! 
أنت تطيرين وفقا لـ ....
ــــ لا رجاء أبدا.
لا فجرا جديدا.
معرفة وجلد،
والعذاب أكيد.
ما ثمة غد،
جمرات الساتان، 
حماسك المضطرم
هو الواجب.
لقد تم العثور عليها !
ـــ ماذا؟ ـ الأبدية.
إنها البحرالممتزج بالشمس.
=======================


بيته في عدن يحتوي على صورته بالزي اليمني .. طوابع بريد تستعيد حياة رامبو "التاجر"
الأحد , 12 أكتوبر 2008 م  
علي حبش*
 
عثرت قبل اكثر من سنتين وعن طريق الصدفة على صورة لطابع بريدي يحمل صورة الشاعر الفرنسي جان أرثر رامبو، في بداية الامر لم أصدق أن الصورة لرامبو الشاعر قلت ربما تكون لشخصية تاريخية أو عسكرية تشبهه غير أنني قرأت في أعلى الطابع وبالعربية “جمهورية جيبوتي” ثم قرأت بالانجليزية أرثر رامبو 1854-1891 استرجعت ذاكرتي مباشرة رامبو الشاعر لاغير، بالنسبة لي كانت صدمة باردة أو انها بمثابة اكتشاف حقيقي لذات الشاعر الضائعة في حياته والمستبدة في مماته، هل وصل رامبو إلى هذه “الشعبية” إن صح التعبير التي جعلت من فرنسا وبعض الدول التي عاش فيها سنواته الاخيرة أن تضع صورته على طوابعها البريدية.
قبل سنتين كتبت بعض السطور عن تلك التي ربما اسميها “ظاهرة” ولم أجرؤ على مواصلة الكتابة فما الذي استطيع أن اكتبه عن شاعر اختزل عذابات العالم بثلاث سنوات من الشعر وانتهى تاجراً للسلاح في الحبشة؟

تركت طوابع رامبو عالقة في أقصى ينابع القلب لأكثر من عامين وتناسيت كل ما يذكرني بجيبوتي أو هرر أو عدن فليس في الروح متسع لخراب جديد.

الآن وبعد عامين وجدت نفسي مجبراً على تكملة ما كتبته بعدما تقصيت عن نشاة الطوابع وألغازها وكيف بدأت فكرتها الاولى ومن هي الدولة الاولى التي بدأت بصناعة أول طابع بريدي في العالم.

تم إصدار أول طابع بريدي في انجلترا عام 1840 اي قبل وفاة رامبو ب51 عاما، والطابع البريدي علامة مميزة توضع على أغلفة ومظاريف الرسائل أو الرزم المعدة للارسال بالبريد، واكتشفت أن الدول تصنع الطوابع البريدية تخليداً لمناسبات مختلفة بدأت بتكريم رؤساء وملوك، وبعدها أصبحت مواضيع الطوابع مختلفة ومنوعة غير أن وراء كل طابع بريدي هدفاً وقصة.

إذن ما هي قصة طوابع رامبو ولماذا وضعت فرنسا وانجلترا وجيبوتي صورة رامبو على طوابعها؟ ثم تذكرت رسائل رامبو الشهيرة إلى أمه وشقيقته، ترى أي طوابع كانت تحمل؟! عندما كان في “هرر” طلب رامبو من أمه في احدى رسائله بندقية صيد خاصة بالفيلة بالتأكيد لم يفكر أو يدرك انه في يوما ما ستضع جيبوتي صورته على طوابعها بعدما يصاب بمرض في ركبته اليمنى وتستأصل رجله في أحد مشافي مرسيليا أي طابع كانت تحمل رسالته الاخيرة لأمه بعدما بترت رجله في المشفى والمؤرخة ب 15 يوليو/ تموز 1891 يقول فيها رامبو أريد أن أخرج من هذا المكان، ولكن هذا من المستحيل، إن لم يكن للأبد. إنني واثق تمام الثقة بأنه لو عولج الألم في مفصلي منذ بدايته لما وصلت إلى هذه الحالة المتدنية ولكنت شفيت منذ زمن. ولكني لم أدرك خطورته في ذلك الوقت، كما أني زدتُ حالتي سوءاً بإصراري على السير الطويل والعمل الشاق. لماذا لم يعلمونا شيئاً من الطب في المدرسة؟ على الأقل لكي نحمي أنفسنا من تلك الأخطاء الحمقاء التي لم أحسب لها حساباً.

ادرك رامبو تماما أن مشفى المجانين سيفتح ابوابه امامه إذا استمر بحقيقته واحلامه، لذلك بعد تركه للشعر ودخوله القسم الثاني العجيب من حياته ادرك أن ما بقي من حياته احتمالات لذلك فتحايل على الجنون وترك الشعر قاصداً حياة غريبة أخرى في إفريقيا يقول رامبو: أما أنا فمنذ أن ولدت كانت حياتي برمتها احتمالات، كلنا يفكر بالغد وبالمصير المبهج الذي نتمناه نخدع أنفسنا كل يوم ونحاول التظاهر بالشعور المرهف ونجمع حماقاتنا في آخر الليل ولم يمسنا الجنون يوما وكأننا “نصنع من الطين الفاصولياء”.

بالتأكيد بقي رامبو علامة فارقة في تاريخ الشعر العالمي ولحياة غريبة صاعقة عاش بدايتها مشردا ثم ركلها بالدموع.

وبين الحبشة وهرر وعدن ومرسيليا أعني القسم الثاني من حياته لم يكتب بيتا من الشعر، ولم يتحدث به ولم تعد كلمة شاعر تجلب له أي اهتمام كان فعلا مثلما قال في الاشراقات “من وراء القبر ولا ارتكابات” إذن هل كان رامبو في القسم الثاني من حياته على السواحل الافريقية شخصا آخر؟ فليس هناك شاعر غيره في العالم تخلى عن شعره كلياً من دون أن يلقي نظرة واحدة على ماضيه، بالتأكيد هو كذلك، لم يعش رامبو القسم الثاني من حياته شاعرا وانما كان شخصا آخر يسعى لجمع المال وسط ظروف جغرافية قاسية ومميتة، إذن اين ذهب رامبو الشاعر الحقيقي؟ ومن كان هذا الذي في الحبشة يقطع كل يوم 40 كيلومتراً مشيا على الاقدام من أجل كسب المال ويمزق قلبه برفق من دون اصدقاء ولا ذكريات ولا قصائد؟

في جميع رسائله التي كتبها إلى أمه لم يتطرق ولا بكلمة واحدة عن ذكرياته ولا حتى اصدقائه.

في احدى رسائله من الحبشة يقول لأمه “نحن نعيش ونموت بطريقة أخرى لم نخطط لها أبداً، ونحن محظوظون لأن هذه هي الحياة الوحيدة التي علينا أن نعيشها”.

في القسم الاول من حياته قال مرة: “كلما حلق بعيدا ازداد الظلام من حوله” أية حقيقة هذه لشاعر لم يتجاوز الثامنة عشرة من العمر ثم يقول: “ومازلنا في الحياة”.

ربما اعتقد الكثيرون ممن شاهد صورته على الطوابع انه قائد عسكري أو ملك من ملوك بريطانيا أو جنرال، بالتأكيد لم يتعرف أحد عليه كشاعر هز العالم من اذنيه ورحل، هل كان المقيمون على صناعة الطوابع يعرفونه شاعراً وقرروا أن يضعوا صورته على طوابعهم أم عرفوه تاجراً أجنبياً على السواحل الافريقية؟ اعتقد انهم شاهدوا فيه التاجر الذي عرفته افريقيا وهذا هو الاحتمال الاصح بالتأكيد، لقد عرف رامبو في النصف الثاني من حياته التي عاشها في افريقيا تاجراً، وحين دفن في “شارليفيل” في فرنسا كتب على شاهدة قبرة “التاجر جان أرثر رامبو” انه حقا أمر محير.

يتحدث هنري ميللر عن نفسه في كتابه “رامبو وزمن القتلة” الصادر عام 1955 ان أمه صعقت حين عرفت أنه يريد أن يكون كاتباً كما لو انه يريد ان يخبرها انه سيصبح مجرماً وذهلت لهذا الطريق المميت الذي سيجلب لها الفقر ووصفته بأنه يريد أن يصنع الفاصولياء من الطين. ميللر عكس رامبو أدرك تماما “أن التاريخ يفقد معناه إذا اختنق صوت الشاعر” ربما استطاع ميللر بالنجاة من المصير الذي انتهى به رامبو، كم كان ميللر مصيبا حين اجل الاكتشاف الحقيقي لرامبو لاكثر من عشر سنوات.

يقع منزل رامبو في منطقة كريتر في عدن وكريتر معناها فوهة البركان وهي اكبر فوهة بركان في العالم، بالتأكيد لم تكن مصادفة ان يختار رامبو هذا المكان ملاذا له.

وقبالة المنزل هناك منارة عدن والتي لا تبعد عنه سوى بضعة امتار. في عام ،1880 كانت المنارة متاخمة لساحل البحر والآن ابتعدت 200 متر عن البحر.

دخلت منزل رامبو فاستقبلني صاحب الكافيتريا بابتسامة، فأبصرت صورة رامبو الصغيرة على يساره ومباشرة دون ان اتكلم كلمة واحدة امسك صاحب الكافيتريا الصورة ووضعها قربي وكأنها دمية، كان في الصالة اكثر من شخص وتحدثوا معي غير ان قلبي كان بعيدا بعيدا عما يدور من احاديث فعندما تتحول عذابات الشاعر وذكراه إلى صورة فوتوغرافية فعلى اللغة ان تنتحر وتأكل نفسها، ثم تذكرت ان رامبو عندما كان في عدن 1881 أمر باستيراد آلة تصوير.

دخلت إلى منزل رامبو وفي الطابق الأول شاهدت صورة فريدة له ب”الزي اليمني” قالت لي العاملة اليمنية في الكافيتريا إنه “مسيو رامبو” وكنت انتظر منها ان تسألني بعض الاسئلة غير انها اكتفت بتلك الجملة انه “مسيو رامبو” والدهشة التي اصابتني ان تحت صورة رامبو توجد ساعة جدارية كبيرة، الشاعر إذن هو خارج الزمن دائما، ان وجود الساعة الجدارية اسفل صورة الشاعر يعني انه اختزل عذاباته فلا زمان للشاعر في هذا العالم، لقد جمع رامبو حياته وعذاباته وشعره فوق الساعة الجدارية وتلك هي مصيبة الشاعر ونبضه الذي لا يموت.

عندما مات رامبو بأحد مشافي مرسيليا في فرنسا عام 1891 أقيم له في عدن عزاء حضره اصدقاؤه وكتب أهل عدن على صورته “لا الله إلا الله ولا قوة إلا بالله وإنا لله وإنا اليه راجعون” في حين لم يحضر تشييع رامبو في مدينته شارليفيل سوى أمه وشقيقته ودفن في مدافن العائلة ووضعت شاهدة على قبره تشير إلى “قبر التاجر جان آرتور رامبو” أما الشاهدة الحقيقية للقبر فلم تظهر إلا في عام 1946 أي بعد 57 سنة من موته عن طريق جماعة مرسيليا الأدبية.

إن الخراب الحقيقي الذي تحدث عنه رامبو تجسد في تشييعه برفق وبكل واقعية وهذا ما لا يتمناه الكثير من الواهمين غير أن رامبو كان مدركاً لما سيكون وبشكل واقعي وحقيقي. لقد تحايل على الجنون ودخل حياة قاسية بعيدة عن موطنه وبرغم قسوتها لم تلامس روحه أبداً.
* عن صحيفة الخليج
 
=================



ليست هناك تعليقات: